Bulğetul Ğavvas fil Ekvani İla Madanil İhlas Fi Marifetil İnsan / بلغة الغواص في الأكوان إلى معدن الإخلاص في معرفة الإنسان
عَرَضَ ابنُ العَرَبِيِّ في هَذَا الكِتَابِ مَسَائِلَ مِنْ مَبَادِئِ التَّصَوُّفِ، وَدَقَائِقَ مِنْ حَقَائِقِ التَّعَرُّفِ، لَا يَجُودُ بِهَا إِلَّا الأسْتَاذُ عَلَى تِلْمِيذِهِ النَّجِيبِ، وَالوَالِدُ عَلَى وَلَدِهِ الحَبِيبِ، مُنْطَلِقًا مِنْ حَقِيقَةٍ فِي الكِتَابِ العَزِيزِ، مِمَّا يُعَدُّ فِي مَعْدِنِ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ فِي رُتْبَةِ الذَّهَبِ الإِبْرِيزِ، أَلَا وَهِيَ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْجَدَ العَالَمَ رَتْقًا ثُمَّ فَتَقَهُ، وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُ الطَّالِبُ بِهِ مَقَامَ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، فَهُوَ النُّورُ الأوَّلُ الَّذِي انفَتَقَتْ مِنْهُ أَنْوَارُ الأَرْوَاحِ، وَالقَلَمُ الأعْلَى الَّذِي هُوَ مَبْدَأُ الإمْلَاءِ وَالإفْصَاحِ، وَهُوَ العَقْلُ الكُلِّيُّ الَّذِي فَاضَتْ مِنْهُ أَنْوَارُ الفُهُومِ، وَهُوَ بَذْرَةُ شَجَرَةِ الأكْوَان، الحَامِلُ سِرَّ مَا يَكُونُ وَكَان، وَهُوَ الصُّورَةُ الَّتِي خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَيْهَا، فَكَانَ فِيهِ مَا انطَبَعَ فِي التَّجَلِّي الأوَّلِ لَدَيْهَا، وَلِذَا كَانَ آدَمُ عليه السلام إِنْسَانًا صَغِيرًا، وَالعَالَمُ إِنْسَانًا كَبِيرًا، وَكَانَ عليه السلام أَيْضًا وَذُرِّيَّتُهُ ثَمَرَ شَجَرَةِ الأكْوَانِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ ابنَ العَرَبِيِّ قَدْ تَفَرَّدَ فِي طَرِيقِ القَوْمِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى تِلْكَ المُضَاهَاةِ بَيْنَ الإِنْسَانِ وَالعَالَمِ، وَالمُوَازَنَةِ بَيْنَ مَا تَشَابَهَ فِيهِمَا، حَتَّى جَعَلَ ذَلِكَ رِيَاضَةً لِمَنْ أَرَادَ رَفْعَ الحِجَابِ، بِقَرْعِ هَذَا البَابِ، وَخَصَّصَ لَهُ مُنَاجَاةً وَدُعَاءً، وَكَشَفَ عَنِ الكَثِيرِ مِنْ أَسْرَارِ التَّلَقِّي وَالإِلْقَاءِ، وَضَرَبَ لِذَلِكَ الأَمْثَالَ فِي جُلِّ مَرَاتِبِ العَالَمِ، فَضَاهَى بَيْنَ اللَّوْحِ وَالقَلَمِ، وَحَوَّاءَ وَآدَمَ، وَصَوَّرَ المُجَرَّدَاتِ حَتَّى بَلَغ بِهَا رُتْبَةَ الجِلَاءِ، وَجَرَّدَ المَحْسُوسَاتِ مُشَوِّقًا السَّالِكَ إِلَى مَعَارِجِ الأَوْلِيَاءِ، كُلُّ ذَلِكَ فِي مَعْرِضِ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى المَسْلَكِ القَوِيمِ بِالشَّرْعِ المُقَوِّمِ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَنْفَعَ بِهَذَا الكِتَابِ كُلَّ مَنْ قَرَأَهُ، وَأَنْ يُوَفِّقَهُ لِخَيْرِ الأعْمَالِ، وَاللهُ مِنْ وَرَاءِ القَصْدِ.