تَقدِيم
بسم الله، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا رسول الله، وعلى آله وأَصحابه الطَّيبين الطاهرين وبعد..
فمساءَ الأَربعاء 28 شعبان 1422 هـ، الموافق 14/11/2001 م وقفتُ أَمام الرَّوضة الشَّريفة في المدينة المنوَّرة(1)، فشعرت بطمأنينة عجيبة وسكينة، فخطر ببالي الآية الكريمة: {إِلاَّ تَنْصُروهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَروا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذ هُمَا في الغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْها وجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هيَ العُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكيمٌ} [التَّوبة 9/40]، والآية الكريمة: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا في قُلُوبِهِمُ الحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وعلى المؤمنينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقوى وَكانُوا أَحَقَّ بها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَليماً} [الفتح 48/26]، وتذكَّرتُ بَيْتَيْنِ من الشِّعْرِ جمعا هذا الْمَعْنى، معنى نزول السَّكينة على رسول
الله صلى الله عليه وسلم:
سَكَنَتْ عِنْدَما نَزَلْنَا الْمَدِينَةْ
عِنْدَ مَنْ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ السَّكينَةْ؟
|
جَاشَتِ النَّفْسُ بِالْهُمُومِ ولكِنْ
كَيْفَ لا تَسْكُنُ النُّفُوسُ ارْتِياحاً
|
ففاضت العيون بعبرات خشوع واشتياق إلى الحبيب المصطفى، وأَنا أَقِفُ قُبَالة مقامه الشَّريف، وأَحسست بسكينة عجيبة غريبة وأَلهمني الله أدعية، بقي بالذَّاكرة منها: اللَّهم ليس لحبيبك الأَعظم تاريخٌ، ولا نكتب عنه تاريخاً، فالتَّاريخ حدث مضى، إِنَّنا نكتب سيرته، والسِّيرة للقدوة والأُسوة، فهي باقية إِلى يوم الدِّين، فاجعلني - يا رب - واحداً من خدم السِّيرة النَّبويَّة العطرة، يستفيد المسلمون منِّي بما أَفنيتُ به حياتي، أَلا وهو دراسة السِّيرة، والكتابة فيها.
وعدتُ إِلى دمشق، وبقيت أَيَّاماً كلَّما ذكرت الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم تَدْمَعُ العين، خصوصاً وقد كان الدَّرس الأَوَّل بعد عودتي في قسم الدِّراسات العليا: (السِّيرة النَّبويَّة: على من نتكَلَّم؟)، وقلت في حينه لطلابنا:
سنتكلَّم على المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم، ولقد قالَ العلماء: كثرة الأَسماءِ دالَّة على عِظَمِ الْمُسَمَّى ورفعته، وذلك للعنايَة به وبشأنه، ولذلك ترى المسمَّيات في كلام العرب أَكثرها محاولةً واعتناء، لأَنَّ العربَ إِذا عظَّمت أَمراً في نفوسها كَثَّرت من أَسمائه..
كالفَرَسِ، فهو: الْمُطَهَّم، والطَّمُوح، والشَّيْظَم، والسَّلْهَب، والطِّمِرُّ...
والإِبل: الفَحْلُ، والمصعب، والظَّعُون، والرَّحُول، والنَّاضِحُ، والدَّارس...
والسَّهْم: الصَّادر، والزَّالج، والطَّائشُ، والصَّائب، والشَّاظِف، والمارق..
والسَّحاب: الغمام، والعارض، والعَنَان، والهيدبُ، والمكفَهِر، والصَّيِّب..
سنتكلَّم على: محمَّد الأَمين، على أَحمد الهادي، على سيِّد ولد آدم، على نبيِّ الرَّحمة، على خاتم النَّبيِّين، على المصطفى المختار، على الْمُجْتَبى، على الهادي الشَّفيع صاحب الحوض المورود، على صاحب المقام المحمود، على السِّراج المنير، على النَّذير البشير...
سنتكلَّم على أكمل النَّاس صورة، مع:
وفُورِ عقله. وذكاء لُبّهِ، وقوَّةِ حواسّه، وفصاحة لسانه، واعتدال حركاته، وحُسنِ شمائله، وحِلمهِ واحتمالهِ، وعفوهِ مع قدرتهِ، وصبرهِ وجودهِ وكرمهِ وسخائهِ وحيائهِ، وشجاعتهِ وسماحتهِ ونجدتهِ وصفاءِ مودَّتهِ، وبذلِ نصيحتهِ وحُسنِ عِشرتهِ، وشفقتهِ ورأفتهِ بجميع الخلائق، وحرصه على إيمانهم، ووفائه وحُسْنِ عهده، وتواضعه على جليل رفعته، وعدله في سيرته، وأَمانته وعفَّته وصدق لهجته، ووقاره ومروءته، وحُسنِ هَدْيِهِ، وزهده في الدُّنيا، وخوفه من ربِّه، وطاعته له، وشدَّة عبادتِهِ، وشكره وإِنابتِهِ إِلى ربِّه، وحُسْنِ قيامه بحقِّه، وصدق يقينه، وتوكُّلِهِ على ربِّه، ومحبَّتِهِ فيه..
جمع مكارمَ الأَخلاق وفضائِلَها.
كان خُلُقُه القرآن، يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه.
1 - جاء بحقِّ موسى عليه السَّلام - وهو من الأَنبياء أُولي العزم: {وَعَجِلْتُ إِليكَ رَبِّ لترضى} [طه 20/84]، وجاء في كتاب الله المجيد بحقِّ محمَّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: {وَلَسَوْفَ يُعْطيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضُّحى 93/5]، وشتان ما بين المقامَيْن.
2 - وبحقِّ موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظلمتُ نفسي فاغْفِرْ لي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّه هُوَ الغفورُ الرَّحيم} [القصص 28/16]، وبحقِّ محمَّد صلى الله عليه وسلم: {إنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبيناً، ليغفِرَ لكَ اللهُ ما تقدَّمَ من ذنبِكَ وما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ويَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقيماً} [الفتح 48/1و2]، وشتَّان ما بين المقامَيْنِ.
3 - وجاء عن موسى عليه السَّلام: {قَالَ ربِّ اشرح لي صدري} [طه 20/25]، وجاء بحقِّ المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم: {أَلم نشرح لكَ صدرك} [الشَّرح 94/1]، وشتَّان ما بين المقامَيْن.
4 - وجاء بحقِّ موسى عليه السَّلام: {وَيَسِّرْ لي أَمري} [طه 20/26]، وجاء بحقِّ الطَّاهر الأَمين صلى الله عليه وسلم: {وَنُيَسِّرُكَ لليُسْرى} [الأَعلى 87/8]، وشتَّان ما بين المقامَيْن.
5 - ولئن كلَّم موسى عليه السَّلام ربَّه في الأرض: {وناديناهُ مِنْ جانب الطُّورِ الأَيمن وقَرَّبناه نجيّاً} [مريم 19/52]، {فلَمَّا أَتاها نُودِيَ من شاطئ الوادِ الأَيمنِ في البُقْعَةِ المباركة مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يا موسى إِنِّي أَنا اللهُ رَبُّ العالمين} [القصص 28/30]، فقد كلَّم الهادي سيد وَلَدِ آدم ربَّه في السَّماء: {عَلَّمه شَدِيدُ القُوى، ذُو مِرَّةٍ فاستوى، وَهُوَ بالأُفُقِ الأَعلى، ثُمَّ دَنَا فتدلَّى فكانَ قابَ قوسينِ أَو أَدنى، فَأَوحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوحى، ما كَذَبَ الفؤادُ ما رأى..} [النَّجم 53/5 - 11]، وشتَّان ما بين المقامَيْن.
6 - وأُرسل موسى عليه السَّلام لبني إِسرائيل، لقومه فقط: {فأَرسل معنا بني إِسرائيلَ ولا تُعَذِّبهم} [طه 20/47]، {وَآتينا موسى الكتابَ وجعلناهُ هدًى لبني إسرائيلَ أَلاَّ تتَّخذوا من دوني وكيلاً} [الإسراء 17/2]، وأُرسل الأَمين صلى الله عليه وسلم للنَّاس كافة، رحمة للعالمين: {وما أَرسلناكَ إِلاَّ كافة للنَّاس بشيراً ونذيراً} [سبأ 34/28]، {إِن هُوَ إِلاَّ ذكرٌ للعالمينَ، ولتعلَمُنَّ نبأَهُ بعد حين} [ص 38/88]، {وما أَرسلناكَ إِلاَّ رحمةً للعالمينَ} [الأنبياء 21/107]، {قُلْ يا أَيُّها النَّاسُ إِنِّي رسول الله إِليكم جميعاً} [الأَعراف 7/158]، وشتَّان ما بين المقامَيْن.
7 - وبحقِّ موسى عليه السَّلام: {وأَلقيتُ عليكَ محبَّةً منِّي ولِتُصْنَعَ على عيني} [طه 20/39]، وبحقِّ المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ لحكم ربِّكَ فَإِنَّكَ بأَعيننا} [الطور 52/48] - وهذه الباء: بأَعيننا للاستغراق - وشتان ما بين المقامَيْن.
8 - الرَّؤوف الرَّحيم هو الله تعالى، وردت عشرات المرّات في كتاب الله المجيد، وفي سورة التَّوبة [9/ 128]: {لقد جاءَكُمْ رسولٌ من أَنْفُسِكُمْ عزيزٌ عليهِ ما عَنِتُّمْ حريصٌ عَلَيْكُم بالمؤمنين رؤوفٌ رحيم}، لقد أَعطاه الله اسمين من أَسمائه الحسنى: رؤوف، رحيم.
9 - الإقْسَامُ بحياة الْمُقْسَم بحياته يدلُّ على شرف حياته وعزَّتها عند الْمُقْسِمِ بها، وصلى الله عليه وسلَّم حياته جديرة أَن يُقْسَمَ بها، إِنَّها بركة لأُمَّة العرب، وبركة للعالمين: {لَعَمْرُكَ إِنَّهم لفي سكرتهم يعمهون} [الحجر 15/72].
10 - والنِّداء في كتابِ الله بحقِّ الحبيب الأَعظم: يا أَيُّها النَّبيُّ، يا أَيُّها الرَّسولُ، يا أَيُّها المزَّمِّل، يا أَيُّها المدَّثِّر.. بأَحبِّ الأَسماء، وبقيَّة الأَنبياء: يا آدم، يا موسى، يا نوح، يا داود، يا زكريا، يا لوط، يا يحيى، يا عيسى...
11 - ومعجزات الأَنبياء السَّابقين آنيَّة، انتهت بعد حدوثها مباشرة، وصارت في صيغة الماضي، ومعجزة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم باقية خالدة (القرآن الكريم) الَّذي ((لا تنقضي عجائبه))، معجزة دائمة تولَّى الله حفظها: {إِنَّا نحن نَزَّلنا الذِّكر وإِنا له لحافظون} [الحجر 15/9].
12 - ثناءُ الله على خُلُقِهِ: {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عظيم} [القلم 68/4]، {فبما رَحْمَةٍ من اللهِ لنتَ لهم ولو كُنتَ فظّاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا من حَوْلِكَ فاعْفُ عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأَمْرِ فإذا عزمتَ فتوكَّل على الله إِنَّ اللهَ يحبُّ المتوكِّلين} [آل عمران 3/159]، لِينٌ ورحمةٌ.. {فتولَّ عنهم فما أنت بملوم} [الذّاريات 51/54]، ولو قَصَّر لتوجَّه اللَّوم إِليه.
هذه جوانب من عظمة من سنقدم أَطلساً عن سيرته العطرة المباركة، الَّذي نزلت عليه (رسالةٌ خاتمة) سماتُها:
1- عقيدة إلهيَّة سماويَّة
{وَبِالحقِّ أَنزلناهُ وبالحقِّ نزلَ وما أرسلناكَ إِلا مُبَشِّراً ونذيراً} [الإسراء 17/105]، {وَإِنَّه لتنزيلُ رَبِّ العالمين، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمينُ على قلبك لتكونَ مِنَ المنذرينَ، بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ} [الشُّعراء 26/192 - 195].
والعقائد الأَرضيَّة الوضعيَّة لا بُدَّ وأَن تنهار عاجلاً أَمْ آجلاً، وتبقى العقيدة الإلهية السَّماويَّة (الإسلام) في انتشارٍ تصاعدي مستمر.
2- عقيدة تركَّزت حَوْلَ شرع الله
فمع أَنَّ الَّذي نُزِّلت عليه الرِّسالة هو المصطفى المختار، فقد تركزت العقيدة حول شرع الله تعالى، وهو - صلى الله عليه وسلم - مكلَّف بها، وبقي الحبيب الهادي في مقام البشريَّة والعبوديَّة لله: {قُلْ إِنَّما أنا بَشَرٌ مثلكم يُوحى إِليَّ أَنَّما إِلهكم إِله واحد..} [الكهف 18/110]، {قُلْ لا أَملكُ لنفسِي نفعاً ولا ضَرّاً إلاَّ ما شاءَ الله ولو كنتُ أَعلمُ الغيبَ لاستكثرتُ مِنَ الخيرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبشيرٌ لِقَوْمٍ يُؤمِنُونَ} [الأعراف 7/188].
وحتَّى في أَرقى وأَسمى مقام روحي له صلى الله عليه سلم، بقي في مقام العبوديَّة للهِ، وذلك في الإسراء والمعراج: {سُبْحَانَ الَّذي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ إِلى الْمَسْجِدِ الأَقْصى..} [الإسراء 17/1]، لم يرد في الآية الكريمة لفظ: برسوله، أَو نبيِّه، أَو بحبيبه، أَو بخليله.. بل {بِعَبْدِهِ}.
فالعقيدة تمركزت حول الله قيُّوم السَّماواتِ والأَرض، الخالق المهيمن الواحد الأَحد، وحول شرعه الَّذي ضمَّته دَفَّتا كتابه المجيد، وجاءتِ السُّنَّة المطهَّرة شارحة مفصِّلة لهذا الكتاب الكريم.
3 - رسالةٌ خاتمةٌ، فجاءت معجزتها باقية مستمرَّة خالدة
أَلا وهي القرآن الكريم، وحينما طلب مشركو قريش معجزات آنيَّة، جاء الجواب عظيماً دقيقاً: {وَقَالوا لولا أُنزل عليه آياتٌ من رَبِّهِ قُلْ إِنَّما الآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنا نذيرٌ مُبِينٌ، أَوَ لم يكفِهِم أَنَّا أَنزلنا عليكَ الكتابَ يُتلى عليهم إِنَّ في ذلك لرحمةً وذكرى لقومٍ يؤمنونَ} [العنكبوت 29/50].
معجزة باقية مستمرة حتَّى قيام السَّاعة: {سَنُريهم آياتِنا في الآفاقِ وفي أَنْفُسِهِم حتَّى يتبيَّنَ لهم أَنَّه الحَقُّ أَو لم يكفِ بربِّكَ أَنَّه عَلَى كُلِّ شيءٍ شَهِيدٌ} [فُصِّلت 41/53].
4- رسالةٌ تخاطبُ العقلَ لا العاطفة
بعيدة عن التَّعصُّب والإكراه، واضحة جليَّة، بعيدة كلَّ البعد عن الأَسرار والرُّموز، فلا مصادرة للعقل، ولا تعطيل للفكر، فالدِّين الحقُّ لا يعانق إِلاَّ العقل، والعقل غذاؤه العلم: {إِنَّ في ذلكَ لآياتٍ لقومٍ يعقلون} [الرَّعد 13/4]، {نُفَصِّل الآيات لقومٍ يعقلون} [الروم 30/28].
عقيدة تخاطب العقول الرَّاجحة، إِنَّها لقوم يعقلون، لقوم يتفكَّرون، لقوم يتدبَّرون، لأُولي الأَلباب، لأُولي الـنُّهى، ((فإِن فتَّش القرآن الكريم اليوم وغداً عن قاضٍ ليحكم بوحيه الإِلهي، فإِلى العقل مرجعه، وإِذا حاجَّ فبحكم العقل، وإِذا سخط فعلى معطِّلي العقل، وإِذا رضي فعن أُولي النُّهى))، {قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تتفَكَّروا ما بِصَاحِبِكُم مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَديدٍ} [سبأ 34/46].
5 - رسالة إِنسانيَّة عالميَّة
ليست لقوم بعينهم، فيا أَيُّها النَّاس تعني البشريَّة كافة، وميزان التَّفاضل لم يغب عن هذه الحقيقة: {يا أَيُّها النَّاسُ إِنَّا خلقناكُم مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكرمَكُم عِنْدَ اللهِ أَتقاكم إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبيرٌ} [الحجرات 49/13].
{إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرٌ للعالمين، وَلَتَعْلَمُنَّ نبأهُ بَعْدَ حينٍ} [ص 38/87 و 88].
{وَمَا أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رحمةً للعالمين} [الأَنبياء 21/107].
{قل يا أَيُّها النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِليكُم جَميعاً} [الأَعراف 7/158].
رسالة إِنسانيَّة عالميَّة، التَّسامح سمة من سماتها الخالدة، فهي لا تحكم بالإعدام على الشَّرائع الأُخرى، والحوار هو البديل، وإِقرار الإِسلام بتعدُّد العقائد في مجتمع المسلمين، إِقرار بمشيئة الله: {وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحدةً وَلا يَزَالُونَ مختَلِفين} [هود 11/118].
وسيبقى مبدأ الإسلام الخالد: {لا إِكراهَ في الدِّينِ} [البقرة 2/156] حجَّة على كلِّ متعصِّب متزمِّت، لا يؤمن بحرِّيَّة اختيار العقيدة، فلا للعنف، ولا للدِّماء، ولا لفرض العقيدة بالإِكراه، والبديل هو الحوار، لا بالحسن من القول، بل بالَّتي هي أَحسن: {ادْعُ إِلى سبيلِ رَبِّكَ بِالحكمةِ وَالموعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بالَّتي هي أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بمنْ ضَلَّ عَنْ سَبيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمهتدينَ} [النَّحل 16/125].
ولكن شتَّان ما بين التَّسامح وبين الضَّعف والعجز، فكثيرون لا يُقَدِّرون هذا النُّبْلَ، وربَّما استغلُّوا هذه السَّماحة في الإِساءة إِلى الإِسلام الَّذي وسعتهم دائرته المرنة.
والحوار من حقِّ الجميع، وحقٌّ للجميع ضمانات الحوار، فلا عنف، ولا مصادرة لرأي الآخر، ولا تشنُّج، بل تسامح دائم، ثمَّ الحساب على الله {فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُم يومَ القيامَةِ فيما كانوا فِيهِ يختَلِفُونَ} [البقرة 2/113].
((إِنَّ العقائد الَّتي يبنيها الحقد يهدمها الانتقام، والعقائد الَّتي يبنيها الحبُّ يحميها الإِحسان)).
6 - توازنٌ عجيبٌ دقيق بين الرُّوح والمادَّة:
الرُّوح - في الإِسلام - لا تنكر المادَّة، والمادَّة لا تطغى على الرُّوح: {وَابْتَغِ فيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبكَ مِنَ الدُّنيا وَأَحْسِنْ كما أَحْسَنَ اللهُ إِليكَ وَلا تَبْغِ الفَسَادَ في الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدينَ} [القصص 28/77].
الرُّوح بسلام، والغرائز بأَمان.
دين فيه توازن عجيب دقيق بين الرُّوح والمادَّة، دين الحياة المتوازنة المطمئنة، فيه الطَّيِّب حلال، والخبيث حرام {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينةَ اللهِ الَّتي أَخْرَجَ لعبادِهِ والطَّيباتِ مِنَ الرِّزق قُلْ هي للَّذين آمَنُوا في الحَيَاةِ الدُّنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامَةِ كذلكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأَعراف 7/32].
7 - رسالَةٌ خَالدةٌ لكلِّ زَمَانٍ ولكلِّ مكانٍ
لأَنَّها فطرة الله سبحانه وتعالى: {فَأَقم وَجْهَكَ للدِّينِ حنيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عليها لا تَبْدِيلَ لخَلْقِ اللهِ ذلكَ الدِّينُ القَيِّمُ وَلكنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الرُّوم 30/30].
{فِطْرَةَ الله} حيث ما يناسب الدَّوافع والغرائز البشريَّة، ولكنَّه حوَّل العلاقة الجنسيَّة إِلى علاقة تعاقديَّة، تُبْنى عليها مؤسَّسة أُسَرِيَّة في مدلولها الخُلُقي الرُّوحي، فأَشبع الغريزة، وحفظ النَّسب، وبنى اللَّبنة الأُولى في المجتمع بناء سليماً.
وهو دين الوسطيَّة، والوسطيَّة فيه تخيُّريَّة نخبويَّة، لتحقيق مجتمع الخطوط المتوازية الَّذي لا تصادم فيه، ولا صراع طبقي، أَو عرقي، أَو نسب، أَو جاه، مقاييس النُّبل والكرامة الإنسانيَّة فيه، خاضعة للجوانب الأَخلاقيَّة، وبالتالي خير المجتمع الإِنساني كلِّه وطمأنينته.
8 - رسالةٌ محفوظةٌ مِنَ الَّذي أَنزلها:
لا تبديلَ فيها ولا تحريف، ولا زيادة ولا نقصان، نتلُوها اليوم كما تُلِيَت يوم أُنزلت {إِنَّا نَحْنُ نزَّلنا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر 15/9]، انهارت نظريات، وهُجِرَت شرائع، وتُرِكَت عقائد، والإِسلام الأَوَّل في الانتشار اليوم، وهو إِسلام الأُخوة الإِنسانيَّة، يُسْرٌ لا عُسْر، إِسلام الحوار الَّذي يشير إِلى ثقة المسلم بما عنده من مبادئ تخاطب العقل، وتشجِّع العلم، وتعترف بالآخر.
وسيملأ الإِسلام، هذه الرِّسالة المحفوظة، مجرى الأُمم، ولكنه الإِسلام اللَّطيف في عَرْضِهِ، النَّقي في فكره، الموضوعي في حواره، المثالي في عمله، الواقعي في حياته، المتكامل في بنيانه.
* * *
قلت لطلابي في حينه: هل عرفتم على من سنتكلَّم في دراستنا للسِّيرة النَّبويَّة؟ هل لمستم قَدْرَهُ وعظمته؟
وهل أَدركتم سمات الرِّسالة الَّتي أُنزلت عليه صلى الله عليه وسلم؟
وما هي إِلاَّ أَيَّام حتَّى جاء صَيْدٌ من الخواطر، صَيْدٌ ثمين، أَن أَجعل من هذه السِّيرة المكتوبة بدقَّة، سيرةً مُوَضَّحةً على مصوَّرات تحدِّد الأَماكن والمدن والمواقع والجهات الَّتي شرَّفها بقدومه أَو التَّوجُّه إِليها، مع بعض الصُّور الموضِّحة، بدءاً من جدِّه أَبي الأَنبياء إِبراهيم عليه السَّلام، وولادته، وأَحداث ما قبل البعثة، وما بعد البعثة والهجرة، حتَّى وفاته صلى الله عليه وسلم.
فليس هذا الأَطلس كتاب سيرة فقط، إِنَّه المصوَّرات والصُّور الَّتي تغطِّي السِّيرة - كلَّ السِّيرة - المباركة، فلئن سُبِقْتُ لمثل هذا العمل فبارك الله بمن عَمِل، ولكن لا أَظنُّ أَن أَحداً عرضها في مصوَّرات بتسلسلها الزَّمني كما عرضتها هنا، مع نبذة أَو مقتطفاتٍ توضِّح الأَمْرَ، وتفي بتحقيق المراد.
فهذا الأَطلس هو الحلقة الرَّابعة في سلسلة الأَطالس الإسلاميَّة الَّتي صدر منها على التَّوالي: أَطلس التَّاريخ العربي الإسلامي، وأَطلس دول العالم الإسلامي، وأَطلس القرآن.
فللّه الحمد أَولاً وآخراً، نعم المولى، ونعم الوكيل، وأَسألُه تعالى أَن ينفع بهذا العمل، فهو من وراء القصد.
الدكتور شوقي أَبو خليل
دمشق الشَّام 1 المحرم الحرام 1423 هـ
14 آذار (مارس) 2002 م